فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} الآية.
هذه الآية تدل على إن هذه النار كانت معروفة عندهم، بدليل أل العهدية، وقد قال تعالى في سورة التحريم: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} فتنكير النار هنا يدل على أنها لم تكن معروفة عندهم بهذه الصفات.
ووجه الجمع أنهم لم يكونوا يعلمون أن من صفاتها كون الناس والحجارة وقودا لها فنزلت آية التحريم فعرفوا منها ذلك من صفات النار، ثم لما كانت معروفة عندهم نزلت آية البقرة، فعرفت فيها النار بأل العهدية لأنها معهودة عندهم في آية التحريم، ذكر هذا الجمع البيضاوي والخطيب في تفسيريهما وزعما أن آية التحريم نزلت بمكة وظاهر القرآن يدل على هذا الجمع لأن تعريف النار هنا بأل العهدية يدل على عهد سابق والموصول وصلته دليل على العهد وعدم قصد الجنس ولا ينافي ذلك أن سورة التحريم مدنية وأن الظاهرنزولها بعد البقرة، كما روي عن ابن عباس لجواز كون الآية مكية في سورة مدنية كالعكس. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيتين:

{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)}.
التفسير:
لما نبه بالآيتين السابقتين على طريق الاعتراف بوجود الصانع ووحدانيته، أعقبهما بما يدل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وحقية ما نزل عليه صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر في كون القرآن معجزًا طريقان:
الأول: أنه إما أن يكون مساويًا لكلام سائر الفصحاء أو زائدًا عليه بما لا ينقض العادة أو بما ينقضها. والأولان باطلان لأنهم- وهم زعماء وملوك الكلام- تحدّوا بسورة منه مجتمعين أو منفردين ثم لم يأتوا بها مع أنهم كانوا متهالكين في إبطال أمره حتى بذلوا النفوس والأموال، وارتكبوا المخاوف والمحن، وكانوا في الحمية والأنفة إلى حد لا يقبلون الحق فكيف الباطل؟ فتعين القسم الثالث.
الطريق الثاني: أن يقال: إن بلغت السورة المتحدى بها في الفصاحة إلى حد الإعجاز فقد حصل المقصود وإلا فامتناعهم من المعارضة مع شدة دواعيهم إلى توهين أمره معجز، فعلى التقديرين يحصل الإعجاز. فإن قيل: وما يدريك أنه لن يعارض في مستأنف الزمان وإن لم يعارض إلى الآن؟ قلت: لأنه لا احتياج إلى المعارضة أشد مما في وقت التحدي، وإلا لزم تقرير المبطل المشبه للحق. وحيث لم تقع المعارضة وقتئذ علم أن لا معارضة، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله: {ولن تفعلوا} كما يجيء.
واعلم أن شأن الإعجاز عجيب يدرك ولا يمكن وصفه كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها، وكالملاحة فمدرك الإعجاز هو الذوق. ومن فسر الإعجاز بأنه صرف الله تعالى البشر عن معارضته، أو بأنه هو كون أسلوبه مخالفًا لأساليب الكلام، أو بأنه هو كونه مبرأ عن التناقض، أو بكونه مشتملًا على الأخبار بالغيوب وبما ينخرط في سلك هذه الآراء، فقد كذب ابن أخت خالته. فإنا نقطع أن الاستغراب من سماع القرآن إنما هو من أسلوبه، ونظمه المؤثر في القلوب تأثيرًا لا يمكن إنكاره لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، لا من صرف الله تعالى البشر عن الإتيان بمثله، كما لو قال أحد: معجزتي أن أضع الساعة يدي على رأسي ويتعذر ذلك عليكم. وكان كما قال، جاء الاستغراب من التعذر لا من نفس الفعل. وأيضًا تسمية كل أسلوب غريب معجزًا باطل، وكذا تسمية كل كلام مبرإ عن التناقض أو مشتملًا على الغيب ككلام الكهان ونحوهم. فإن قيل: كيف نعتقد إعجاز القرآن بحيث يعجز عنه الثقلان فقط والزائد غير معلوم الحال، أو بحيث يعجز عنه المخلوقات بأسرها؟ قلنا: لا ريب أن الحق هو القسم الثاني، إلا أن التحدي لم يقع إلا بالقدر الأول وبه يثبت صحة النبوة.
لكن النبي صادق وقد أخبر بأنه كلام الله تعالى، ونحن نعلم أن كلام صفته وصفته يجب أن تكون في غاية الكمال ونهاية الجلال. فالقرآن إذًا في غاية البلاغة ونهاية الفصاحة. والبلاغة هي بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حدًا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها، وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها، وهي فينا كأنها هيئة اجتماعية حاصلة من معرفة قوانين علمي المعاني والبيان. والفصاحة إما معنوية وهي خلوص الكلام عن التعقيد، والتعقيد أن يعثر صاحبه فكرك في متصرفه ويشيك طريقك إلى المعنى ويوعر مذهبك نحوه، حتى يقسم فكرك ويشعب ظنك فلا تدري من أين تتوصل وبأي طريق معناه يتحصل. وإما لفظية وهي أن تكون الكلمة عربية أصلية، وعلامة ذلك أن تكون على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم أدرب، واستعمالهم لها أكثر، وأن تكون أجرى على قوانين اللغة العربية، وأن تكون سليمة عن التنافر، عذبة على العذبات، سلسة على الأسلات. والحاكم في ذلك هو الذوق السليم والطبع المستقيم، فقلما ينجع هنالك إلا ذلك. ثم إنه قد اجتمع في القرآن وجوه كثيرة تقتضي نقصان الفصاحة، ومع ذلك فإنه بلغ في الفصاحة النهاية التي لا غاية وراءها، فدل ذلك على كونه معجزًا. منها أن فصاحة العرب أكثرها في وصف المشاهدات كبعير أو فرس أو جارية أو ملك أو ضربة أو طعنة أو وصف حرب أو وصف غارة، وليس في القرآن من هذه الأشياء مقدار كثير. ومنها أنه تعالى راعى طريق الصدق وتبرأ عن الكذب، وقد قيل: أحسن الشعر أكذبه. ولهذا كان لبيد بن ربيعة وحسان بن ثابت لما أسلما وتركا سلوك سبيل الكذب والتخيل ترك شعرهما. ومنها أن الكلام الفصيح والشعر الفصيح إنما يتفق في بيت أو في بيتين من قصيدة، والقرآن كله فصيح ككل جزء منه. ومنها أن الشاعر الفصيح إذا كرر كلامه لم يكن الثاني في الفصاحة بمنزلة الأول، وكل مكرر في القرآن فهو في نهاية الفصاحة وغاية الملاحة.
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره ** هو المسك ما كررته يتضوّع

ومنها أنه اقتصر على إيجاب العبادات وتحريم المنكرات والحث على مكارم الأخلاق والزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة، ولا يخفى ضيق عطن البلاغة في هذه المواد. ومنها أنهم قالوا: إن شعر امرئ القيس يحسن في النساء وصفة الخيل، وشعر النابغة عند الخوف، وشعر الأعشى عند الطرب ووصف الخمر، وشعر زهير عند الرغبة والرجاء والقرآن جاء فصيحًا في كل فن من فنون الكلام.
فانظر في الترغيب إلى قوله: {فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرّة أعين} [السجدة: 17] وفي الترهيب {وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرّعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت} [إبراهيم: 15- 17] وفي الزجر {فكلًا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبًا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا} [العنكبوت: 40] وفي الوعظ {أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون} [الشعراء: 205] وفي الإلهيات {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال} [الرعد: 8، 9]. ومنها أن القرآن أصل العلوم كلها كعلم الكلام وعلم أصول الفقه وعلم الفقه واللغة والنحو والصرف والنجوم والمعاني والبيان وعلم الأحوال وعلم الأخلاق وما شئت، ومن يطيق وصف القرآن وبلاغته فإنه كما أن الإتيان بأقصر سورة منه فوق حد البشر فوصفه كما هو فوق طاقة البشر.
فدع عنك بحرا ضل فيه السوابح

وإنما قيل: {وإن كنتم} دون إذ كنتم لما عرفت في تفسير {لا ريب فيه}. وإنما اختير {نزلنا} على لفظ التنزيل دون الإنزال، لأن المراد النزول على سبيل التدريج والتنجيم وهو من مجازه لمكان التحدي، وذلك أنهم كانوا يقولون: لو أنزله الله لأنزله جملة واحدة {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32] أي على خلاف ما نرى عليه أهل الخطابة والشعر من وجود ما يوجد منهم مفرقًا شيئًا فشيئًا وحينًا فحينًا حسب ما يعنّ لهم من الأحوال المتجددة والحاجات السانحة، فقيل لهم: إن ارتبتم في هذا الذي وقع إنزاله هكذا على مهل وتدريج، فهاتوا أنتم نوبة واحدة من نوبه، وهلموا نجمًا من نجومه أصغر سورة وهي الكوثر، ومعنى السورة مذكور في المقدمة الرابعة. وإنما قيل: {على عبدنا} دون أن يقال على محمد كقوله: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد} [محمد: 2] تشريفًا له صلى الله عليه وسلم وإعلامًا بأنه صلى الله عليه وسلم ممن صحح نسبة العبودية المأمور بها في قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا} وإضافة العبد إلى الضمير أيضًا تؤيد ذلك كقوله تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [الإسراء: 65]. وفيه أن السعادة كل السعادة في نسبة العبدية، فهي التي توصل إلى العندية {في مقعد صدق عند مليكٍ مقتدر} [القمر: 55] «وأنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي» وكمال العندية في كمال الحرية عما سوى الله. وأما فائدة تفصيل القرآن وتقطيعه سورًا، فمن ذلك أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع واشتملت الأنواع على الأصناف، كان إفراز كل من صاحبه أحسن، ولهذا وضع المصنفون كتبهم على الأبواب والفصول ونحوها.
ومنها أن القارئ إذا ختم سورة أو بابًا من الكتاب ثم أخذ في آخر، كان أنشط له كالمسافر إذا قطع ميلًا أو طوى فرسخًا، ومن ثم جزأوا القرآن أسباعًا وأجزاء وعشورًا وأخماسًا، ومنها أن الحافظ إذا حفظ السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها فيحل في نفسه، ومنه حديث أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا. ولهذا كانت القراءة في الصلاة بسورة تامة أفضل.
و{من مثله} متعلق بمحذوف أي بسورة كائنة من مثله، والضمير لما نزلنا أو لعبدنا. ويجوز أن يتعلق بقوله: {فأتوا} والضمير للعبد معناه، فأتوا بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب والنظم الأنيق، أو فأتوا ممن هو على حاله من كونه بشرًا عربيًا أو أميًا لم يقرأ الكتب ولم يقصد إلى مثل ونظير معين، ولكنه كقول من قال للحجاج وقد توعده بقوله: لأحملنك على الأدهم، فقال: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب أراد من كان على صفة الأمير من السلطان والقدرة وبسطة اليد، ولم يقصد أحدًا يجعله مثل الحجاج.
وردّ الضمير على المنزل أوجه وعليه المحققون. ويروى عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن، ولأن ذلك يطابق الآيات الأخر {فأتو بسورة مثله} [البقرة: 23] {فأتوا بعشر سور مثله} [هود: 13]، ولأن البحث إنما وقع في المنزل لا في المنزل عليه، إذ المعنى وإن ارتبتم أن القرآن منزل من عند الله فهاتوا أنتم شيئًا مما يماثله. ولو كان الضمير مردودًا إلى الرسول اقتضى الترتيب أن يقال: وإن ارتبتم في أن محمدًا صلى الله عليه وسلم منزل عليه، فأتوا بسورة ممن يماثله. وأيضًا لو كان عائدًا إلى القرآن اقتضى أن يكونوا عاجزين عن الإتيان بمثله، مجتمعين أو متفرقين، أميين أو قارئين. ولو عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم اقتضى أن يكون الشخص الواحد الأمي الذي هو مثله عاجزًا، ولا شك أن الإعجاز على الوجه الأول أقوى، ولاسيما فإنه يلزم من الوجه الثاني تقرير نقص للنبي صلى الله عليه وسلم، وإيهام أنّ الإتيان بالقرآن ممن يكون قارئًا ممكن. وأيضًا الأول هو الملائم لقوله: {وادعوا شهداءكم} إذ لو كان المراد فليأت واحد آخر أمي بنحو ما أتى به هذا الواحد، لم يحتج أن يستظهر بالشهداء وهي جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادات. والمراد بها إما آلهتهم كأنه قيل: إن كان الأمر كما تقولون من أنها تستحق العبادة لما أنها تنفع وتضر فقد دفعتم في منازعة محمد إلى فاقة شديدة فتعجلوا الاستعانة بها، وإلا فاعلموا أنكم مبطلون فيكون في الكلام محاجة من جهتين: من جهة إبطال كونها آلهة، ومن جهة إبطال ما أنكروه من إعجاز القرآن.
وإما أكابرهم ورؤساؤهم أي ادعوهم ليعينوكم على المعارضة، أو ليحكموا لكم وعليكم. ومعنى دون أدنى مكان من الشيء، ومنه الشيء الدون وهو الحقير، ودوّن الكتب إذا جمعها بتقليل المسافة بينها. ويقال هذا دون ذلك إذا كان أحط منه قليلًا، ودونك هذا أي خذه من دونك أي من أدنى مكان منك، فاختصر واستعير للتفاوت في الأحوال والرتب. وقيل: زيد دون عمرو في الشرف والعلم، ومنه قول من قال لعدوّه وقد كان يثني عليه رياء: أنا دون هذا وفوق ما في نفسك. واتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد وتخطى حكم إلى حكم. قال الله تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} [آل عمران: 28] أي لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين.
و{من دون الله} متعلق ب {شهداءكم} أو ب {ادعوا} وعلى الأول يحتمل ثلاثة معان: ادعوا الذين اتخذتموهم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق، أو ادعوا الذين زعمتم أنهم يشهدون لكم بين يدي الله من قول الأعشى:
تريك القذى من دونها وهي دونه

أي تريك القذى قدام الزجاجة والحال أن الخمر قدام القذى لرقتها وصفائها، وفي أمرهم أن يستظهروا بالجماد الذي لا ينطق في معارضة القرآن المعجز بفصاحته غاية التهكم بهم، أو ادعوا شهداءكم من دون الله أي من دون أوليائه ومن غير المؤمنين ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله، وهذا من المساهلة وإرخاء العنان والإشعار بأن شهداءهم- وهم فرسان البلاغة- تأبى بهم الطباع وتجمح بهم الإنسانية والأنفة أن يرضوا لأنفسهم الشهادة بصحة الفاسد. وعلى الثاني يحتمل معنيين: ادعوا من دون الله شهداءكم يعني لا تستشهدوا بالله ولا تقولوا الله يشهد أن ما ندعيه حق كما يقول العاجز عن إقامة البينة على صحة دعواه، وادعوا الشهداء من الناس الذين شهادتهم ظاهرة تصحح بها الدعاوى عند الحكام، وهذا تعجيز لهم وبيان لانقطاعهم وانخزالهم، وأن الحجة قد بهرتهم ولم تبق لهم متشبثًا غير قولهم الله يشهد إنا لصادقون.
سئل بعض العرب عن نسبه فقال: قرشي والحمد لله، فقيل له: قولك: الحمد لله في هذا المقام ريبة. أو المراد بالشهداء، الله تعالى، وكل من له أهلية الحضور من الجن والإنس. فكأنه قيل لهم ادعوا غير الله من الجن والإنس من أردتم كقوله: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن} [الإسراء: 88] الآية وإنما استثنى الله لأنه القادر وحده على أن يأتي بمثله دون كل شاهد. واعلم أن التحقيق في التحدي هو أن النبي يقول: إني مخصوص من الله تعالى بمزيد الكرامة والنور، وجعلني واسطة بينكم وبين هدايتكم فاتبعون أهدكم سبيل الخير والرشاد، وإن كنتم في ريب مما أقول، فانظروا إلى هذا الذي أقدر عليه بإظهار الله تعالى إياه على يدي وأنتم لا تقدرون عليه لعدم إقداره، لتعرفوا أني خصصت بمزيد فضل من عنده وأني صادق فيما أقول، فإن أنصفوا من أنفسهم بمشيئة الله تعالى ونور هدايته اتبعوه واهتدوا، وإلا بقوا في الضلالة خائبين.
وكل هذا من عالم الأسباب التي ربط الله تعالى بها الوقائع والحوادث حسب ما أراد، ولا يلزم من هذا أن يكون للعبد قدرة مستقلة يقع التحدي عليها، بل الله يهدي من يشاء وكل بقدر. وقوله: {إن كنتم صادقين} قيد لقوله: {فأتوا} ولقوله: {وادعوا} المعطوف عليه. ويجوز أن يكون قيدًا لقوله: {وادعوا} لأن قوله: {فأتوا} مقيد بقوله و{إن كنتم} وجواب الشرط الثاني محذوف لدلالة ما قبله وهو مثله عليه التقدير: وإن كنتم في ريب فأتوا، وإن كنتم صادقين في أن أصنامكم تعينكم، أو في أن القرآن غير معجز، فادعوا شهداءكم. وإنما قلنا: الجواب محذوف، لأن الجزاء لا يتقدم على الشرط، فإن للشرط صدر الكلام كالاستفهام، ولهذا لم يلزم الفاء في قولك أنت مكرم إن جئتني وإنما تقدم ما يدل عليه ومثله في القرآن كثير فاعتبره في كل موضع. وأما قوله: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} الآية. فأقول أولًا: إنها تدل على إعجاز القرآن وصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من وجوه:
أحدها: أنا نعلم بالتواتر أن العرب كانوا يعادونه صلى الله عليه وسلم أشد المعاداة، ويتهالكون في إبطال أمره وفراق الأوطان والعشيرة وبذل النفوس والمهج منهم من أقوى ما يدل على ذلك. فإذا انضاف إليه مثل هذا التقريع وهو قوله: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} فلو أمكنهم الإتيان بمثله لأتوا به، وحيث لم يأتوا به ظهر كونه معجزًا. وثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم إن كان متهمًا عندهم فيما يتعلق بالنبوة، فقد كان معلوم الحال في وفور العقل. فلو خاف صلى الله عليه وسلم عاقبة أمره لتهمة فيه صلى الله عليه وسلم- حاشاه عن ذلك- لم يبالغ في التحدي إلى هذه الغاية. وثالثها: أنه صلى الله عليه وسلم لو لم يكن قاطعًا بنبوته لكان يجوز خلافه، وبتقدير وقوع خلافه يظهر كذبه، فالمبطل المزوّر لا يقطع في الكلام قطعًا، وحيث جزم دل على صدقه. ورابعها: أن قوله: {ولن تفعلوا} وفي {لن} تأكيد بليغ في نفي المستقبل إلى يوم الدين، إخبار بالغيب. وقد وقع كما قال صلى الله عليه وسلم، لأن أحدًا لو عارضه صلى الله عليه وسلم لم يمتنع أن يتواصفه الناس ويتناقلوه عادة، لاسيما والطاعنون فيه صلى الله عليه وسلم أكثف عددًا من الذابين عنه صلى الله عليه وسلم.
وإذا لم تقع المعارضة إلى الآن غلب على الظن، بل حصل الجزم أنها لا تقع أبدًا لاستقرار الإسلام وقلة شوكة الطاعنين. وإنما جيء ب {إن} الذي للشك دون {إذا} الذي للوجوب والقطع، مع أن انتفاء إتيانهم بالسورة واجب بناء على حسبانهم وطمعهم، فإنهم كانوا بعد غير جازمين بالعجز عن المعارضة لاتكالهم على بلاغتهم. وأيضًا فيه تهكم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة على من يقاويه: إن غلبتك لم أبق عليك. وإنما اختير قوله: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} على قوله: {فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة من مثله} طلبًا للوجازة، فإن الإتيان فعل من الأفعال، وحذف مفعول فعل كثير دون مفعول أتى فهو جار مجرى الكناية التي تعطيك اختصارًا يغنيك عن طول المكنى عنه، كما لو قلت: أتيت فلانًا وأعطيته درهمًا. فيقال لك: نعم ما فعلت. وقوله: {ولن تفعلوا} جملة معترضة لا محل لها. وليس الواو للحال وإنما هو للاستئناف. والمعترضة تجيء بالواو وبدون الواو، وقد اجتمعتا في قوله: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} [الواقعة: 76] وإنما لم يقل فإن لم تفعلوا فاتركوا العناد كما هو الظاهر، لأن اتقاء النار لصيقه وضميمه ترك العناد، فوضع موضعه من حيث إنه من نتائجه، لأن من اتقى النار ترك المعاندة، ونظيره قول الملك لجيشه: إن أردتم الكرامة عندي فاحذروا سخطي. يريد فاتبعون وافعلوا ما هو نتيجة حذر السخط، فهو من باب الكناية. وفائدته الإيجاز الذي هو من حلية القرآن، وتهويل شأن العناد بأنه الموجب للنار، ولهذا شنع يتفظيع أمرها. والوقود ما ترفع به النار، وأما المصدر فمضموم وقد جاء فيه الفتح. فإن قلت: صلة {الذي} و{التي} يجب أن تكون قصة معلومة للمخاطب، فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة؟ قلنا: لا يمتنع أن يتقدم لهم بذلك سماع من أهل الكتاب، أو سمعوه من رسول الله، أو يكون إشارة إلى ما نزلت بمكة قبل نزول هذه بالمدينة وذلك في سورة التحريم {قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة} [التحريم: 6] ولهذا عرّفت هاهنا مشارًا بها إلى ما عرفوه ثمة أوّلًا، والمعنى: اتقوا نارًا ممتازة عن غيرها من النيران بأنها لا تتقّد إلا بالناس والحجارة، أو بأنها توقد بنفس ما يراد إحراقه وإحماؤه، أو بأنها لإفراط حرها إذا اتصلت بما لا يشتعل به نار اشتعلت وارتفع لهبها. ولعل لكفار الجن وشياطينهم نارًا وقودها الشياطين جزاء لكل جنس بما يشاكله من العذاب. والحجارة قيل: هي حجارة الكبريت. وقيل: هي ما نحتوها أصنامًا {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} [الأنبياء: 98] لأنهم لما اعتقدوا فيها أنها شفعاؤهم عند الله، وأنهم ينتفعون بها ويدفعون المضارّ عن أنفسهم، جعلها الله عذابهم إبلاغًا في إيلامهم وتوريثًا لنقيض مطلوبهم، ونحوه ما يفعله بالذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، أي يمنعون حقوقها حيث {يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم} [التوبة: 35] والتاء في الحجارة لتأكيد التأنيث في الجماعة نحو: صقورة. وقد يدور في الخلد من هذه الآية، ومن قوله: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة} [البقرة: 74] ومن قوله: {نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة} [الهمزة: 6، 7] أن المراد بالحجارة هي الأفئدة أي وقودها الناس وقلوبهم. وتخصيص القلب بالذكر لأنه أشرف الأعضاء وأولى بالإحراق إن كان مقصرًا في درك ما خلق الإنسان لأجله. ومعنى أعدت هيئت وجعلت عدّة لعذابهم، وإنما فقد العاطف لأنها بدل من الصلة أو استئناف، كأنه قيل لمن أعدّت هذه النار؟ فقيل أعدت للكافرين. اهـ.